العدالة الانتقالية ومحاكمة بشار الأسد: خطوة نحو بناء دولة الحق والقانون

العدالة الانتقالية هي إحدى الأدوات الجوهرية لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء المجتمعات التي عانت من النزاعات المسلحة أو الأنظمة الاستبدادية. في الحالة السورية، تبرز أهمية العدالة الانتقالية كآلية لتضميد جراح ملايين الضحايا الذين عانوا من ويلات نظام بشار الأسد. فمنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تعرض الشعب السوري لأبشع أنواع الجرائم، شملت القتل الجماعي، التعذيب، الإخفاء القسري، والاعتقال التعسفي. محاكمة الأسد ومن ارتكبوا هذه الجرائم ليست مجرد مطلب أخلاقي أو قانوني، بل خطوة حتمية لبناء دولة الحق والقانون.
جرائم نظام الأسد: أرقامٌ تستنفر العدالة
وفقًا للمنظمات الحقوقية الدولية، تجاوز عدد القتلى في سوريا منذ بداية النزاع مليون شخص، معظمهم مدنيون وتهجير ما يقارب 13 مليون سوري. هذا بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المعتقلين الذين يقبعون في سجون النظام، وأبرزها سجن صيدنايا، الذي يوصف بأنه “مسلخ بشري”. تقارير منظمة العفو الدولية تشير إلى إعدام آلاف السجناء داخل هذا السجن تحت ظروف مروعة تضمنت التعذيب المنهجي والجوع.
ورغم إعلان الجهات المعنية عن توقف أعمال البحث أو الإفراج عن المعتقلين، ما تزال عشرات العوائل تتجمع حول سجن صيدنايا حتى يومنا هذا، تحمل صور أحبائهم وتبحث عن أي بصيص أمل يدل على وجود أبنائهم المختفين قسريًا. الروايات تشير إلى أن السجن يحتوي على طوابق سرية تحت الأرض، حيث يُحتمل أن يكون العديد من المعتقلين محتجزين، بعيدًا عن أي رقابة أو توثيق. هذه المشاهد اليومية تعكس عمق المأساة الإنسانية التي سببتها ممارسات نظام الأسد وتظهر الحاجة الماسة للعدالة.
أهمية المحاكمة في إطار العدالة الانتقالية
1.استعادة كرامة الضحايا وعائلاتهم:
العدالة الانتقالية لا تهدف فقط إلى محاسبة المجرمين، بل إلى إعادة الكرامة للضحايا من خلال الاعتراف بمعاناتهم وضمان عدم تكرار هذه الجرائم. مايزال السوريون فرحين بإسقاط النظام المجرم إلا أن هذه الفرحة يمكن أن تتحول إلى إحباط إذا لم تقترن بإجراءات عاجلة لإطلاق مسلسل العدالة وإعادة الكرامة لهم.
2.محاربة ثقافة الإفلات من العقاب:
محاكمة الأسد ومن معه تُظهر أن المجتمع الدولي لن يتسامح مع الجرائم ضد الإنسانية. إن الإفلات من العقاب يشجع على ارتكاب المزيد من الانتهاكات، بينما المحاسبة تشكل رادعًا مستقبليًا لأي حاكم مستبد.
3.إعادة بناء الثقة في المؤسسات:
لا يمكن بناء دولة الحق والقانون دون إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية التي استخدمها النظام لقمع الشعب. محاكمة المسؤولين عن الجرائم تُظهر التزام الدولة المستقبلية بسيادة القانون. في الوقت الحالي يعتبر تعزيز المؤسسات الأمنية والقضائية أولوية ومن شأنه إعطاء إشارة واضحة في بدأ العدالة الانتقالية في سورية.
4.تهيئة بيئة للمصالحة الوطنية:
العدالة الانتقالية تُشكل أساسًا للمصالحة الوطنية. إذ لا يمكن تحقيق السلم الأهلي إذا لم يتم إحقاق العدالة للضحايا ومحاسبة المجرمين. المصالحة دون عدالة ستكون مصالحة هشة وغير مستدامة.
التحديات أمام محاكمة الأسد
رغم أهمية محاكمة بشار الأسد، إلا أن الطريق إلى العدالة مليء بالعقبات. أولها أن سوريا ليست طرفًا في نظام روما الأساسي الذي يحكم المحكمة الجنائية الدولية، مما يعني أن المحكمة لا تمتلك ولاية مباشرة على الجرائم المرتكبة في سوريا. إضافة إلى ذلك، فإن اللجوء التي توفره روسيا للأسد على المستوى الدولي قد يعيق أي تحرك جاد في مجلس الأمن لإحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية.
آفاق العدالة البديلة
في حال تعذر محاكمة الأسد عبر المحكمة الجنائية الدولية، يمكن البحث عن آليات أخرى لتحقيق العدالة:
المحاكم الوطنية: يمكن للدول التي تحمل ولايات قضائية عالمية أن تحاكم مرتكبي الجرائم الكبرى في سوريا.
محاكم خاصة: إنشاء محكمة خاصة على غرار محاكم رواندا ويوغوسلافيا قد يكون حلًا فعّالًا.
توثيق الجرائم: دعم جهود المنظمات الحقوقية في توثيق الانتهاكات سيضمن عدم ضياع الأدلة واستعدادها للاستخدام في أي محكمة مستقبلية.
نحو بناء دولة الحق والقانون
محاكمة الأسد ليست فقط مطلبًا لتحقيق العدالة الانتقالية، بل هي خطوة أساسية نحو بناء سوريا جديدة تقوم على أسس دولة الحق والقانون. دولة تحترم كرامة الإنسان وتضمن حقوق جميع مواطنيها دون تمييز. العدالة الانتقالية ليست نهاية المطاف، بل هي بداية رحلة طويلة لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، وطي صفحة الاستبداد إلى الأبد.
ختامًا، محاكمة الأسد ليست قضية سورية فحسب، بل قضية إنسانية تتعلق بسيادة القانون الدولي وحقوق الإنسان. على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية لدعم السوريين في نضالهم من أجل العدالة، لأن العدالة المؤجلة هي عدالة مرفوضة.

تعليق واحد

  1. محاكمة الأسد ليست مجرد قضية وطنية سورية، بل هي قضية إنسانية تعكس أهمية احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون الدولي.
    العدالة المؤجلة أو المرفوضة تبقي الجراح مفتوحة، مما يعيق أي محاولة لإعادة الإعمار وبناء السلام الدائم. يجب على المجتمع الدولي دعم هذه الجهود بشكل عملي، لضمان أن تكون العدالة حجر الزاوية في مستقبل سوريا الجديد.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *