العدالة لا تتطلب مبالغ خيالية، الإرادة هي المطلوبة. مقال لأحمد حجازي

من المثير للتساؤل أن بعض آليات العدالة الانتقالية، كالاعتذار الرسمي أو الجبر الرمزي للضرر لم تكلف الكثير من الأموال، فميزانية لجنة الحقيقة والمصالحة الجنوب أفريقية بلغت 18 مليون دولار فقط ودولة البيرو ايضا تكلفت 13 مليون دولار فقط في عدالة تناولت فقط جبر الضرر الرمزي والاعتذار الرسمي وكشف الحقائق برعاية وإرادة الدولة.

أما الدول التي قدمت تعويض مالي نجد المملكة المغربية فهيئة الإنصاف والمصالحة المغربية تجاوزت ميزانيتها 2 مليار دولار بقليل وعوضت 27723 الف مستفيد من التعويضات المالية لحدود عام 2023، حسب المجلس الوطني لحقوق الإنسان المغربي كونه المكلف بمتابعة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.

مع العلم ان التعويضات مازالت في مرحلة التنفيذ ما يجعلها في المقام الاول عبارة عن احكام لها صبغة شبه قضائية وتنفيذها التزام واجب على المغرب مع مرور الوقت، ويعتبر المغرب من الدول القليلة التي وفرت دعما مباشرا بهذا الكم، وبكل الاحوال فالإمكانيات المادية للدولة غير مهمة بالنظر إلى أن الاتفاقيات الدولية تحث الدول الأعضاء على المساهمة كواجب في تمويل برامج العدالة الانتقالية لأي دولة مقبلة على العدالة الانتقالية ما يجعل العبئ مادي غير مهم وبكل الاحوال فإن العدالة الانتقالية لا تتطلب المال في البداية ولكن مع ذلك، تتردد الدول التي خرجت من نزاعات طويلة، مثل سوريا، في اتخاذ هذه الخطوات البديهية. لماذا إذن هذا التردد؟ وهل حقاً المسألة مالية؟ أم أن الجواب أعمق من الأرقام؟

من منطق وطني سورية بحت؛ لا يمكن التفكير بأي عملية تعويض عن ضرر – سواء مادي أو معنوي – دون بيئة شفافة توضح أولويات الدولة، وتضع ميزانيتها أمام المساءلة والمراقبة.

إن الحديث عن تعويض ضحايا الانتهاكات يصبح عبثياً ما لم نعلم كيف تُنفق الأموال، ولمن تُمنح، وعلى حساب من تُهدر.

وعليه، وفي ظل غياب شفافية مالية الدولة السورية، تصبح العدالة من منطلق وطني بحت – ولو كان رمزي ولا يعتمد على المجتمع الدولي بشكل كامل – مؤجلة وتفسيرها مفهوم نظراً لصعوبة مرحلة التأسيس ولكن بكل فالأحوال فميزانية سورية عام 2024 بلغت 2.6 دولار في دولة أنهكتها الحرب 13 عاماً ومخلفات اقتصادية كارثية لعهد الأسد، فيما أعلن وزير المالية الجديد إيقاف العمل بالميزانية السنوية لعام 2025 واعتماد ميزانية شهرية حالياً حيث صرح يوم 2025/1/7 بأن الموازنة الإثني عشرية مؤقتة ريثما تكون الظروف الاقتصادية ملائمة لإعداد موازنة عامة للدولة.

على ما يبدو، فإن ميزانية سورية لا تكفي أبدا لمعالجة شق التعويضات المالية وحدها حاليا ولكنها قادرة بشكل اكيد على البدء باعتذار الدولة وجبر الضرر الرمزي والتحضير لمشروع شامل للتعويض المالي في وقت متقدم نيابة عن النظام السابق ما يجعل الرئيس الشرع مطالب ان يفهم حقيقة مهمة وهي أنه امتداد للدولة ككل وليس امتداد للأسد مما يجعل مسؤوليته في معالجة ارث النظام السابق في انتهاك حقوق الإنسان ثابتة ولا يبرر للحكومة الجديدة التبرؤ من الدولة ككل بجريرة النظام السابق!

وفي هذا السياق، تبدو المؤسسة القضائية الحلقة الأكثر تعبيراً عن المفارقة. فالقضاء لا يحتاج إلى تمويل ضخم بقدر حاجته إلى نخب قانونية شاملة لكل التوجهات السياسية والطائفية، نزيهة، مستقلة، وشجاعة، تستطيع أن تستعيد الثقة العامة وتُطمئن المكونات المتعددة لسوريا ما بعد النزاع. ورغم أن ميزانيات القضاء عبر العالم غالباً ما تكون متواضعة مقارنة بوزارات الأمن والدفاع، فإنها تكون فعالة حين تُدار بكفاءة ويُختار القضاة لا بالولاء بل بالكفاءة وهذا ما لا يتوفر عليه فصيل سياسي او طائفي وحيداً بل يجب ان تتكاتف كل الطوائف في الاندماج في الجسم القضائي الموحد.

ولعل الاستغراب الأكبر يكمن في هذا: ما الذي يمنع تأسيس قضاء شامل يراعي كل التوجهات الفكرية والثقافية في سوريا؟ ما الذي يعطّل تشكّل سلطة قضائية لا تنتمي إلا للقانون، قادرة على احتضان التعدد لا الإقصاء، وتحقيق العدالة لا الثأر؟

اعتقد صادقاً، أن المصالحة والاتفاق على المظالم على المستوى الوطني يبدأ من رجال القانون وليس السياسة او الاقتصاد او الميزانيات العريضة.

ما يؤكد أنه ربما آن الأوان لندرك أن العدالة ليست عبئاً على الميزانية، بل مرآة لصدق النية في بناء مستقبل مشترك.

وختاماً وفي نفس السياق، أؤكد أن مهمة الدولة السورية الجديدة ليست سهلة ومن المجحف الحكم عليها حالياً، وعليه يبقى اختبار إرادة الدولة والحث على اتباع طريق العدالة بالشكل الصحيح للتقليل من الأخطاء التي يمكن ان تساهم في تقسيم البلاد؛ غير منطلق من باب ترف فكري ولا من منطلق توجه ايديولوجي بقدر ما يعتبر نظراً لأهميته القصوى واجب على كل وطني سوري ويجب تقبله، وتوجيه إرادة الدولة ككل لتحقيقه أمراً بالغ الأهمية وفي المقدور تحقيقه.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *