مبدأ “تأخير العدالة هو إنكار للعدالة” وأهمية تسريع الإجراءات القضائية في القانون المغربي

يعتبر مبدأ “تأخير العدالة هو إنكار للعدالة” أحد أهم المبادئ في الأنظمة القضائية المعاصرة، ويعبر بشكل أساسي عن ضرورة تنفيذ العدالة في الوقت المناسب لضمان تحقيق الإنصاف للأطراف المتنازعة. يرتبط هذا المبدأ بالعدالة كحق أساسي، حيث إن البطء في عملية التقاضي لا يُعد مسألة زمنية فقط بل يؤثر بعمق على مصداقية النظام القضائي وثقة الأفراد به. ومن ثم فإن كان الأفراد ينتظرون سنوات للحصول على حكم قضائي، فإن هذا يُنظر إليه كإنكار وحرمان من حقهم في تحقيق العدالة، وبالتالي يعبر هذا المبدأ عن أهمية القضاء الفعال والسريع الذي يستطيع تلبية متطلبات الأفراد والشركات الناشئة في الوقت المناسب.

سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على تمظهرات هذا المبدأ في القانون والممارسة القضائية في المملكة المغربية.

 

المفهوم الأساسي لمبدأ “تأخير العدالة هو إنكار للعدالة”

يشير هذا المبدأ إلى أن تأخر الحكم القضائي لفترة طويلة يمكن أن يُفرغ العدالة من مضمونها. فعندما يتأخر صدور الحكم لفترة ممتدة دون مبرر، يتعرض المتقاضون إلى ضغوط نفسية ومالية واجتماعية، وقد تُفقد القضية جوهرها بفعل طول المدة الزمنية. وعليه فإن انتظار العدالة لمدة غير معقولة يُضعف من فعالية الحكم ويجعل الأطراف تشعر بعدم تحقيق العدالة. لذلك، يُنظر في أقصى التجليات إلى أن التأخير غير المبرر في إصدار الأحكام على أنه رفض ضمني للعدالة.

 

أسباب التأخير في العملية القضائية

هناك عدة عوامل تتسبب في تأخير البت في القضايا، ومنها:

  1. تراكم واكتظاظ القضايا أمام المحاكم: زيادة عدد القضايا وعدم وجود عدد كافٍ من المحاكم والقضاة يمكن أن يؤدي إلى ضغط هائل على النظام القضائي، مما يساهم في تأخير الجلسات وإطالة زمن البت في القضايا. هذه المشكلة شائعة في الدول ذات الكثافة السكانية العالية أو الأنظمة القضائية التي تواجه تحديات هيكلية.

في المغرب، صرح المسؤولون القضائيون في افتتاح السنة القضائية 2024 أن حصيلة العمل القضائي بالمغرب لعام 2023، بلغ إجمالي القضايا التي استقبلتها محاكم المملكة 5,429,774 قضية، منها 4,661,927 قضية جديدة أضيفت إلى 767,847 قضية من العام السابق. وقد تم الحكم في 4,696,203 قضية، ما يمثل نسبة إنجاز تجاوزت 100% من القضايا المسجلة خلال العام.

أما محكمة النقض، فقد سجلت انخفاضاً طفيفاً في عدد القضايا الجديدة المسجلة بنسبة 7%، إذ تم تسجيل 48,130 قضية عام 2023 مقارنةً بـ52,676 قضية في 2022. كما حُكم في 46,757 قضية خلال العام، بينما بلغ عدد القضايا التي لم يتم الفصل فيها 51,247 قضية، وهو تحدٍّ يتطلب تعديلات تشريعية لتقليل أعداد الطعون المتراكمة وتعزيز الكفاءة في معالجة القضايا على حد وصفهم.

  1. قلة الموارد البشرية والتقنية: نقص عدد القضاة والمحامين المؤهلين أو ضعف البنية التحتية الرقمية وعدم وجود نظم إلكترونية فعالة يسهم في التأخير؛ حيث تعتمد بعض المحاكم على أنظمة تقليدية تجعل متابعة القضايا وتحديث بياناتها تستغرق وقتًا طويلاً.

في العديد من الدول، يوصى بتوفير قاضٍ حكم لكل 10,000 – 15,000 نسمة، وذلك لضمان قدرة القضاء على تغطية القضايا بشكل فعال. ويؤثر بشكل مباشر على العدد عوامل تتعلق معايير النوعية وعبء العمل وتوزيع القضاة بحسب المناطق وتحسين كفاءة موظفي جهاز كتابة الضبط.

حسب إحصائيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية لدى المغرب ما يقارب 3200 قاضي وقاضية حكم » وحسب أحدث الإحصائيات المتاحة فإن عدد سكان المغرب حوالي 37 مليون نسمة ما يجعل العدد الأنسب هو 3700 قاضي وقاضي؛

ويمكن تغطية النقص من خلال: 

  •  زيادة عدد القضاة تدريجياً خلال السنوات القادمة ليصل إلى حوالي 5,000 قاضٍ، خاصة في المحاكم التي تشهد ضغطاً عالياً.
  • توظيف وتدريب موظفي كتابة الضبط: يجب زيادة عدد موظفي كتابة الضبط بما لا يقل عن 20% عن العدد الحالي، مع تحسين التدريب لضمان الجودة والكفاءة في العمل.
  • إعادة توزيع القضاة: التركيز على توزيع القضاة بشكل متوازن بين المحاكم المركزية والمحاكم الفرعية، لضمان تغطية جميع المناطق.
  • التحول الرقمي وتقليل الإجراءات الورقية: يمكن أن يساعد اعتماد المحاكم الإلكترونية بشكل أكبر في تخفيف العبء على القضاة وموظفي كتابة الضبط، وتسريع الإجراءات، مع العلم أن المغرب يعكس من خلال المنصات الالكترونية القضائية مثل منصة محاكم ومنصة السادة المحامون رؤيته نحو التحول الرقمي من خلال تحسين الوصول للعدالة وتبسيط الإجراءات القانونية. 

 

وعليه، فإن تحقيق نظام قضائي فعال يتطلب توازناً بين زيادة عدد القضاة وموظفي كتابة الضبط، وتحسين الكفاءة العامة للنظام عبر استخدام التكنولوجيا والإدارة الفعالة.

  1. الإجراءات القضائية المعقدة: تتطلب بعض القضايا، وخاصةً القضايا المعقدة مثل القضايا الجنائية الكبرى أو القضايا التجارية الدولية، إجراءات دقيقة وفحصًا دقيقًا للمستندات والشهادات، مما يؤدي إلى تأخير عملية التقاضي.
  2. التأخيرات المتكررة بطلب الأطراف: من الأسباب الشائعة للتأخير في النظام القضائي هو طلب تأجيل الجلسات من قبل الأطراف، سواء لأسباب موضوعية أو غير موضوعية. إذ قد تستخدم بعض الأطراف هذا التأخير كتكتيك لتحقيق مكاسب على حساب الطرف الآخر، خاصة في القضايا التجارية أو المالية.
  3. التكدس الناتج عن الاستئناف والتقاضي متعدد المستويات: في بعض الأنظمة، تتضمن الإجراءات القضائية عدة مستويات من الاستئناف يمكن للأطراف أن تتبعها. هذه المراحل، وإن كانت ضرورية لضمان العدالة، يمكن أن تؤدي إلى إطالة زمن التقاضي. 

في المغرب، ينص القانون على أن بعض أنواع القضايا التي لا تتجاوز الطلبات فيها سقف معين من المبالغ المالية تعرض على قضاء يسمى « قضاء القرب » أنشئ بموجب القانون رقم 42.10 والذي يوجد في مقتضياته تبسيط المسطرة القضائية وشيء من التقييد للحق في الطعن بالاستئناف. 

وتعمل الحكومة في نفس الاتجاه، على الرفع من هذا السقف في مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد رقم 02.23 المصادق عليه أمام مجلس النواب بأغلبية حكومية وفي انتظار المصادقة عليه أمام مجلس المستشارين ودخوله حيز التنفيذ. 

وللإشارة فإن مشروع القانون هذا أثار العديد من النقاشات بين الفاعلين القضائيين على رأسهم المحامين ووزارة العدل. 

 

أهمية تسريع العملية القضائية

 

تسريع العملية القضائية لا يمثل فقط مطلبًا من الأطراف المتنازعة بل هو جزء أساسي من كفاءة النظام القضائي وفعاليته، ويحقق عدة فوائد، منها:

  1. تعزيز الثقة بالنظام القضائي: عندما يُرى أن القضاء قادر على البت في القضايا بشكل سريع وعادل، تتزايد ثقة الأفراد والمستثمرين بالنظام، مما يعزز الاستقرار القانوني ويشجع الاستثمار والنمو الاقتصادي. وخير مثال في هذا الموضوع دولة سنغافورة التي أدى تعزيز النظام القضائي وتسريع العملية القضائية إلى زيادة ترتيب سنغافورة عالمياً في ريادة الأعمال وسهولة ممارستها. اليوم تعرف 
  2. حماية حقوق الأفراد والمجتمع: العدالة المتأخرة قد تفقد معناها، فقد ينتظر الشخص حكمًا يتعلق بحقوقه المالية أو القانونية لفترة طويلة، مما يعرضه للخسارة أو الضغوط النفسية. تسريع العدالة يضمن أن يحصل الأفراد على حقوقهم بشكل عاجل، ويشعرهم بالإنصاف الحقيقي.
  3. الحد من التكاليف المالية: تتزايد تكاليف التقاضي عندما تطول مدته، سواء بالنسبة للأطراف أو النظام القضائي ككل. إذ يتحمل الأفراد والشركات أتعاب المحامين ومصاريف المحكمة بشكل مستمر، بينما تتحمل الدولة تكاليف إدارية كبيرة. وبالتالي، فإن تسريع التقاضي يوفر التكاليف المالية للطرفين.
  4. الحد من التراكم والتكدس في المحاكم: زيادة سرعة البت في القضايا تخفف من تراكم القضايا أمام المحاكم وتوفر الوقت للتركيز على القضايا الأكثر تعقيداً. يؤدي ذلك إلى تخصيص الموارد بشكل أفضل ورفع مستوى كفاءة النظام القضائي.

يلاحظ من خلال الواقع العملي بأن أحد أسباب تكدس الملفات والتراكم الحاصل يعود بشكل أساسي إلى التأخر في تحرير الأحكام القضائية مع أن قانون المسطرة المدنية ينص بشكل صريح على أن الأحكام يجب أن تكون محررة في جلسة النطق بها ويزيد في الفصل 50 من القانون المشار إليه إلى أن كاتب الضبط يبلغ الأطراف الحاضرين بالحكم في نفس الجلسة التي ينطق بها بالحكم. وبرأينا من شأن تفعيل هذا المقتضى القانوني تسريع البت في القضايا بشكل كبير.

  1. تحقيق الردع العام والخاص: عندما تكون العقوبات والأحكام رادعة وتطبق بسرعة وفعالية، فإنها تعمل كرسالة قوية للمجتمع بأن العدالة مطبقة وأن الأحكام تنتظر كل من يخرق القانون. بالتالي، يعمل ذلك كوسيلة ردع تمنع الأفراد والشركات من ارتكاب مخالفات.

 

أمثلة وتدابير عالمية لتسريع العملية القضائية:

 

تحقيق مبدأ “تأخير العدالة هو إنكار للعدالة” يعتمد على تنفيذ سياسات وإجراءات متنوعة، ومنها:

  1. التحديد الزمني للفصل في القضايا: في عدة أنظمة قضائية مثل الولايات المتحدة، تم وضع حدود زمنية صارمة للبت في القضايا. تساعد هذه الحدود الزمنية في تجنب التأخير غير المبرر، وتجبر المحاكم على النظر في القضايا ضمن إطار زمني معقول.

ومثال ذلك في القانون المغربي؛ تنص المادة 190 من مدونة الأسرة المغربية أنه يتعين البت في قضايا النفقة في أجل أقصاه شهر واحد. 

تنص المادة 563 من مدونة التجارة المغربية على أن المحكمة تبت في طلب فتح مسطرة الإنقاذ، بعد استماعها لرئيس المقاولة بغرفة المشورة، خلال أجل خمسة عشر يوما من تاريخ تقديمه إليها.

 

  1. تعزيز المحاكم الإلكترونية: اعتمدت العديد من الدول تقنيات حديثة لإنشاء محاكم إلكترونية، مثلما هو الحال في دولة الإمارات العربية المتحدة وكوريا الجنوبية، حيث تسمح هذه التقنية بتسريع الوصول إلى المعلومات والأحكام، وتوفر الوقت والمجهود للأطراف والقضاة. كما يمكن للأطراف من خلال هذه الأنظمة متابعة قضاياهم وإيداع مستنداتهم إلكترونيًا.

في المغرب، يعمل الفاعلون في المجال القضائي على تفعيل المنصات الإلكترونية قدر الإمكان وتعتبر منصة المحامي من أفضل النتائج التي وصل لها التطور المغربي في هذا المجال، حيث تتيح هذه المنصة للمحامين التواصل مع محاكم المملكة بشكل سريع والكتروني من خلال إيداع وتتبع الملفات وإيداع المذكرات وطلب نسخ الأحكام والقرارات القضائية.

  1. تطبيق الوسائل البديلة لحل النزاعات (ADR): اعتمدت دول مثل المملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة الأمريكية على الوسائل البديلة مثل الوساطة والتحكيم كخيار لحل النزاعات خارج إطار المحاكم. هذه الوسائل توفر وقتًا كبيرًا، حيث يمكن حل النزاعات سريعًا دون الحاجة للمرور عبر الإجراءات القضائية المعقدة.
  2. تعيين قضاة متخصصين وزيادة عدد القضاة والمحاكم: لمواجهة التحديات الناتجة عن تزايد القضايا، تقوم بعض الدول بتعيين قضاة متخصصين للنظر في نوع معين من القضايا، مثل قضايا الأسرة أو قضايا الإفلاس. بالإضافة إلى ذلك، يتم تعيين قضاة مؤقتين أو زيادة عدد القضاة والمحاكم بشكل عام لتلبية الطلب المرتفع.
  3. تسهيل التسويات المبكرة والوساطة القضائية: في بعض الأنظمة القضائية مثل النظام الكندي، يتم تشجيع الأطراف على إجراء تسويات مبكرة للوصول إلى حلول مرضية بسرعة، مما يقلل من عدد القضايا التي تتراكم أمام المحاكم.
  4. إصلاحات القوانين والإجراءات القضائية: عمدت بعض الدول إلى تعديل قوانينها لتقليل التعقيدات الإجرائية، مثل تقليل مراحل الاستئناف أو تبسيط الإجراءات المعتمدة في قضايا معينة. كذلك، تم وضع إجراءات قضائية مختصرة في القضايا البسيطة لضمان تسريع البت فيها.

 

التحديات التي تواجه تسريع العدالة

 

على الرغم من هذه الجهود، إلا أن هناك تحديات عدة تواجه تحقيق تسريع العدالة بشكل مثالي، ومنها:

  1. الموارد المالية: تحتاج بعض الدول إلى استثمارات كبيرة لتنفيذ البنية التحتية الرقمية، مثل نظام المحاكم الإلكترونية، أو لزيادة عدد القضاة والمحاكم لمواجهة الضغط.
  2. التدريب والتأهيل: يحتاج القضاة والعاملون في النظام القضائي إلى تدريب مستمر للتعامل مع التقنيات الحديثة مثل أنظمة إدارة القضايا الإلكترونية، وهذا قد يتطلب وقتًا وجهودًا إضافية.
  3. التوازن بين السرعة والدقة: التركيز المفرط على تسريع العملية القضائية قد يؤدي إلى تجاهل بعض التفاصيل الهامة أو ارتكاب أخطاء. لذلك، يجب ضمان أن يكون هناك توازن بين تسريع الإجراءات والحفاظ على دقة الأحكام.
  4. مقاومة التغيير: بعض الأنظمة القضائية لا تزال تعتمد على تقاليد قديمة، مما يجعل عملية التحديث والتغيير صعبة. قد يواجه تسريع العدالة رفضًا من بعض العاملين في النظام القضائي الذين يخشون من فقدان السيطرة على العملية.

 

الخاتمة

 

في الختام، يمثل مبدأ “تأخير العدالة هو إنكار للعدالة” دعوة ملحة لتحسين وتطوير الأنظمة القضائية بحيث تكون أكثر فاعلية وسرعة، مع المحافظة على الجودة والدقة في الأحكام. إن الوصول إلى العدالة في الوقت المناسب هو من الحقوق الأساسية التي يجب أن يحصل عليها الأفراد. تحقيق هذا المبدأ يتطلب اعتماد تقنيات حديثة، وتطوير الكفاءات، وتوفير الموارد البشرية الكافية والإرادة.

 

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *